كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قالوا لمسلم فضل ** قلت البخاري أولى

قالوا البخاري مكرر ** قلت المكرر أحلى

فقال تعالى قوله يا سيد الرسل {هَلْ أَتاكَ حديث ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} 24 وصفهم بالكرم لأنهم ملائكة كرام عليه أو لأن إبراهيم الكريم أكرمهم أو لأنهم ضيوفه وهو مكرم على اللّه، ولفظ ضيف يطلق على الواحد والجمع ولذلك جاء وصفه جمعا كالصوم والزور، قيل كانوا تسعة عاشرهم جبريل عليه السلام، راجع قصتهم في الآية 69 من سورة هود المارة.
واذكر لقومك يا حبيبي {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالوا سَلامًا} عليك يا إبراهيم يا خليل الرحمن {قال سَلامٌ} ثم سكت وصار يتملأ بهم ويتعجب من حالتهم إذ دخلوا عليه بلا استئذان، ورأى أن عملهم هذا منكر، فقال أنتم {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} 25 لأن دخلو لكم قبل أن نأذن لكم وقبل أن تستأذنوا عندنا منكر، ولم يجر في عرفنا وأنتم غرباء عن هذه البلاد ولا معرفة لنا بكم، فكيف تجاسرتم على هذا، أولا تعرفون أن عوائدنا هنا عدم جواز الدخول إلا برخصة من صاحب البيت، أنبهم عليه السلام من جهة عدم مراعاتهم العوائد المتعارفة، ولكنه عذرهم بكونهم غرباء عن بلاده، ولأنهم سكتوا ولم يردوا عليه بشيء بما استدل به على أنهم عرفوا تقصيرهم، لأنه لم يشك بهم أنهم غير بشر لمجيئهم بصفة البشر ولم يسألهم عن هويتهم وهم لم يذكروا له شيئا {فَراغَ إِلى أَهْلِهِ} ذهب بانسلال حتى لا يحسوا به أنه ذهب ليحضر لهم قراهم وهكذا عادة الكرام إذا نزل بهم الضيف ينسلون من أمامه ليهيئوا له قرأه من حيث لا يشعر ولئلا يمنعوه من ذلك، فأسرع وذبح وطهى، كما يدل عليه قوله: {فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} 26 مشوي لقوله في الآية 69 من سورة هود المارة {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} والقرآن يفسر بعضه، فحمل عليه كما يحمل المقيد على المطلق، راجع الآية 45 من سورة الأنعام المارة {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} زيادة في إكرامهم لأنه لم يدعهم إليه بل وضعه أمامهم، وهذا من آداب الضيافة التي شرحناها في الآية المذكورة من سورة هود المارة، فرآهم لم يأكلوا {قال أَ لا تَأْكُلُونَ} 27 بلين ولطف كما تدل عليه أداة الطلب الخاصة بالرفق والاحترام، لأنه أراد تلافي ما بدر منه عند دخولهم، ولاسيما أنهم لم يجادلوه، فلم يترك شيئا من آداب الضيافة قولا وفعلا إلا فعله معهم، ولما رآهم لم يجيبوا دعوته ولم يمدوا أيديهم لأكله وهو من خير ما يقدم للضيف خشي منهم ووجل وساوره الخوف، لأنه أنبهم ولم يعرفهم وأصروا على عدم الأكل {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} لأن عدم الأكل يدل على سوء الظن، وهو أمارة على الضغائن، وهذه عادة معروفة عندهم ولا تزال حتى الآن فصار يدخل ويخرج فلما أحسوا به أنه قلق من عدم أكلهم ووقع في قلبه الرهبة منهم وهم جماعة وهو واحد {قالوا لا تَخَفْ} وأخبروه بأنهم ملائكة اللّه {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} 28 كثير العلم {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ} لما سمعت قولهم هذا {فِي صَرَّةٍ} صيحة مأخوذة من صرير القلم والباب والهودج والرحل، أي صارت تولول كعادة النساء إذا سمعن شيئا، وصرتها هذه هي قولها في آية هود المارة {يا وَيْلَتى} وقيل الصرة الجماعة المنضمين لبعضهم، كأنها جاءت مع نسوة ينظرن الملائكة الكرام {فَصَكَّتْ وَجْهَها} عند سماعها تلك البشارة، أي ضربت يديها على وجهها تعجبا، وهذه أيضا من عادتهن عند ما يسمعن ما ينكرنه {وَقالتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} 29 لم تلد قط فكيف بعد هرمها وهي مع عقمها عجوز {قالوا كَذلِكَ قال رَبُّكِ} وقضى أن تلدي ولدا مع كبرك وعقمك هذا {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ} فيما يفعل والحكيم لا يصعب عليه ما يريده {الْعَلِيمُ} 30 فيما أنت عليه من العقم والكبر وهرم زوجك أيضا وسائر مخلوقاته، وختمت آية هود 73 المارة بقوله: {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} لأن الحكاية هناك أبسط منها هنا، فذكروا ما يدفع الاستبعاد بقوله: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ولما صدقت أرشدت إلى القيا بشكر اللّه وذكر نعمته بقولهم {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} وهنا لم يقولوا {أَتَعْجَبِينَ} فتبهوها إلى ما يدفع تعجبها بقولهم {الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} ومن كان حكيما عليما لا يقال له كيف عمل ولم عمل، تدبر.
هذا واعلم أنه عليه السلام لما عرفهم ملائكة وهو يعلم أنهم لا يأتون إلا لمهمّة، خاطبهم بقوله كما حكى اللّه عنه {قال فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} 31 فما شأنكم بعد هذه البشارة لأنه عرف أن الأمر ليس مقصورا عليها ولا بد من أمر عظيم جاءوا لتنفيذه {قالوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} 32 متوغلين بالإجرام القبيحة وهم قوم لوط، قال وما تفعلون بهم قالوا {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ} 33 مرسلة {مُسَوَّمَةً} من سوّمت الماشية إذا أرسلتها في المرعى أو معلّمة بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا بل هي {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} 34 بحقوق اللّه المتجاوزين ما سنه لهم نبيّهم ولم يقنعوا بما أبيح لهم، فجادلهم إبراهيم بذلك كما سيأتي في الآية 33 من العنكبوت الآية، ولد مر منه في الآية 73 من سورة هود المارة فأعلموه أنه لا مناص من إهلاكهم وتركوه وتوجهوا إلى قرى قوم لوط فلما وصلوها، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 35 بلوط عليه السلام قالوا {فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 36 أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن أهل البيت لوط وابنتاه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنهم كانوا ثلاثة عشر واستدل في هذه الآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي، أي لم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد، وإلا لم يستقم الكلام، فإن الإيمان والإسلام صادق على الأمر الواحد كالناطق والإنسان، أما على الاتحاد المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا، وإنما خصهم بالإيمان أولا لأنه أهم من الإسلام إذ لا يكون مؤمن إلا وهو مسلم، لأن الإسلام أعم من الإيمان، وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه، وقد يكون مسلما لا مؤمنا، قال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قولوا أَسْلَمْنا} الْآيَة 14 من سورة الحجرات ج 3، لأن الإسلام مطلق الانقياد بخلاف الإيمان، تدبر.
وسيأتي تمام هذا البحث في تفسير الآية المذكورة آنفا {وَتَرَكْنا فِيها آيَةً} علامة من آثارهم ظاهرة {لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ} 37 ليستدل بها على تدميرهم وإهلاكهم من يأتي بعدهم، فيمتنعون عما يوجب إيقاع مثله فيهم، قال تعالى: {وَفِي مُوسى} تركنا في أراضي القبط الذين كذبوه آية أيضا ليعتبر من خلفهم بهم فيرتدعوا عن معاصي اللّه {إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ} ملك مصر {بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} 38 برهان ظاهر وحجة قاطعة ودليل ساطع كاليد والعصا والآيات المبينة في الآية 130 من سورة الأعراف في ج 1، {فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} أعرض الخبيث عنه بجنبه وهو أشد من الإعراض بالوجه وأكثر احتقارا وأعظم أنفة واستكبارا عنه، أو مع ركنه الذي يتقوى به من ملائه ووزرائه وجنوده، والأول أولى {وَقال ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} 39 فلا نطيعه ولا نركن إليه، وبعد أن أظهر لهم جميع تلك الآيات وقابلوه بالإصرار على الكفرَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ {فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ} هو وقومهَ {هُوَ مُلِيمٌ}.
40 حالة إتيانه بما يلام عليه من الكفر والعناد، راجع تفصيل هذه القصة في الآية 63 من الشعراء في ج 1، قال تعالى: {وَفِي عادٍ} تركنا أيضا أثارا وعبرا لما كذبوا نبيهم هودا عليه السلام {إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} 41 التي لا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا ولا خير فيها ولا بركة إذ هي المستأصلة المهلكة لجميع من أرسلت عليهم دون أن تترك منهم أحدا، قال تعالى في وصفها {ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} 41 القش المكسر البالي المفتت وهو كل يابس دريس من نبات الأرض، راجع قصتهم في الآية 72 من سورة الأعراف المذكورة وفي الآية 58 من سورة هود المارة، {وَفِي ثَمُودَ} تركنا عبرا ومتعظا عند ما كذبوا نبيهم صالحا {إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} 43 انقضاء الأجل المضروب لنزول العذاب فيكم وهو ثلاثة أيام بعد عقر الناقة {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} تكبرا وتجبرا عن طاعته وطاعة رسوله {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} 44 راجع قصتهم في الآية 39 من سورة الأعراف في ج 1، {فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ} من عليهم عند مشاهدتهم نزول العذاب ولا من قعود إذ هلك القائم قائما والقاعد قاعدا {وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ} 45 إذ لا دافع لعذاب اللّه، ولا مانع منه، ولا رافع له، ولا قوة لأحد على مقابلته {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} هؤلاء الأمم المهلكة أهلكناهم غرقا لأنهم كذبوا نبيهم {إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمًا فاسِقِينَ} 46 خارجين عن الطاعة، راجع قصتهم في الآية 39 من سورة هود المارة.
هذا، وبعد أن قص اللّه على نبيه أخبار هؤلاء المهلكين بصورة مجملة بعد أن قصها عليه بالسورة المذكورة مفصلة من باب ذكر المجمل بعد المفصل أحد أنواع علم البديع المستحسنة وذكر ما يتعلق بالحشر والنشر، شرع يذكر له أفعاله العظيمة فيما يتعلق بالتوحيد والوحدانية ويؤدى إليهما مما هو نعمة للإنسان والحيوان، فقال جل قوله: {وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ} بقوة وقدرة خارجة عن طوق المخلوقين وخارقة للعادة، وما قيل إنه جمع يد تضعيف وليس هنا استعمال المجاز مكان الحقيقة لأن الأيدي معناها الحقيقي القوة، قال تعالى في وصف أنبيائه {أُولِي الْأَيْدِي} الْآيَة 45، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} الْآيَة 17 من سورة ص ج 1، إذ لايراد بها الجارحة البتة، وبناؤها شيء عظيم خارج عن تصور البشر وإحاطته دال على عظمة منشئه القائل {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} 47 بناءها بحيث تكون الأرض بالنسبة لها كحلقة ملقاة في فلاة، وهذا من معجزات القرآن لأنه قبل اكتشاف النجوم ذوات الأذناب الطويلة بالآلات الرصدية ما كان أحد يعلم إن الفضاء واسع لا نهاية له مدركة، حتى انه وسع تلك الكواكب التي تحتاج إلى محيط لا يحده عقل البشر، والآيات الدالة على أن السماء مبنيّة كثيرة منها ما ذكرناه آنفا في تفسير الآية 7 المارة، ومنها ما جاء في الآية 32 من سورة البقرة في ج 3، وفي الآية 12 من سورة النبأ الآتية وغيرها {وَالْأَرْضَ فَرَشْناها} بسطناها ومددناها {فَنِعْمَ الْماهِدُونَ} 48 نحن الإله الكبير العظيم، وهذه الآية لا تنافي كرويتها، لأن كل قسم منها بالنسبة لمن هو عليه مفروش ممهد، وفي قوله تعالى: {مَدَدْناها} في الآية 19 من سورة الحجر المارة معجزة أخرى، إذ لا يعلم أحد في عهد نزول القرآن أنها ذات طول غير اللّه تعالى، راجع الآية 15 من سورة الحجر المذكورة {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ} صنفين اثنين ذكر وأنثى، حقيقة ومجازا مادة ومعنى {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 49 صنع اللّه فالسماء والأرض زوجان، وكذلك الشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والحر والبرد، والصيف والشتاء، والخريف والربيع، والنور والظلمة، والحلو والحامض، والمالح والباهت، والإنس والجن، والذكر والأنثى من الحيوان والنبات، والوحش والطير، والحوت والحشرات، والإيمان والكفر، والحق والباطل، والسعادة والشقاوة وغيرها، أفلا توجب الذكرى أيها الناس فتستدلوا بها على مبدعها وتؤمنوا به وتصدقوا رسله وكتبه {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} اهربوا من عذابه طلبا لثوابه ومن معصيته إلى طاعته بالإذعان لأوامره ونواهيه والانقياد لما يرضى بكليتكم {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} 50 لما جئتكم به من الحجج القاطعة والأدلة القوية والبراهين الساطعة والأمارات الظاهرة.
{وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} تشركونه بعبادته وتسمونه إلها زورا وإفكا، لأنه لا شريك له ولا وزير، فاحذروا هذا كل الحذر {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} 51 كرر جل جلاله على لسان رسوله صلّى اللّه عليه وسلم الشطر الأخير من هذه الآية عند النهي عن الشرك، لأن الأولى عند الأمر بالطاعة إعلاما بأن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل، كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان، والغرض من ذلك زيادة الحث على التوحيد والمبالغة في الفصيحة.
قال تعالى: {كَذلِكَ} مثل ما كذبك قومك ووضعوك بما لا يليق، فإنه {ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالوا} فيه قومه مثل ما قاله قومك فيك {ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} 52 وهذا من قبيل التسلية له صلّى اللّه عليه وسلم من ربه عز وجل ليوطن نفسه الكريمة على تحمل الأذى والطعن فيه، أسوة بإخوانه الأنبياء، ولهذا قال تعالى مقرعا لهم وموبخا صنيعهم معه بقوله عز قوله: {أَتَواصَوْا بِهِ} أي هل وصى بعضهم بعضا بهذه الألفاظ الدالة على التكذيب والإهانة للرسل حتى تناقلوها جيلا بعد جيل، كلا {بَلْ هُمْ} أنفسهم {قَوْمٌ طاغُونَ} 53 حملهم بغيهم على ذلك وتشابهت قلوبهم فوقرت وملئت من كراهية الحق فنطقت بتلك الألفاظ كما تكلم بها أسلافهم لا أنهم تواصوا بها، لأنه إذا توجد التواصي من القوم بعضهم لبعض كقوم نوح عليه السلام إذ طال أمده فيهم فصاروا يوصي بعضهم بعضا بعدم طاعته لأنه ساحر إلخ، فلا يوجد من الأقوام الماضية لغيرهم، إذ أن عذاب الاستئصال الذي أوقعه بهم يحول دون ذلك، لعدم بقاء من ينقل ما وقع منهم، ولهذا جاء القول علي طريق الاستفهام الإنكاري والتعجب من اتفاقهم على كلمات: ساحر كاهن مجنون مختلق شاعر متعلم وغيرها، والأشنع من هذا توغلهم كلهم بالطغيان على أنفسهم وغيرهم وخاصة الأنبياء، ومن كان كذلك لا جرم يصدر منه كل قبيح، وإذ كان قومك يا سيد الرسل من هذا القبيل {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} واتركهم ولا يهمنك شأنهم {فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ} 54 على عدم إيمانهم، لأنك بلغت وأنذرت وبذلت جهدك في نصحهم، فما عليك أن لا يؤمنوا، فحزن صلّى اللّه عليه وسلم عند نزول هذه الآية وظن أصحابه أن الوحي انتهى وأن العذاب قرب أو ان نزوله، فأنزل بعدها {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} 55 الذين هم في علم اللّه تعالى أنهم يؤمنون، فيؤمنون وتزيد المؤمنين إيمانا، فسري عنه صلّى اللّه عليه وسلم وابتهج أصحابه، وفرحوا بذلك وقرت أعينهم وطابت نفوسهم وقوي أمله صلّى اللّه عليه وسلم، وصار يبالغ في إرشادهم ونصحهم وتذكيرهم.
قال تعالى: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 56 ويوحدوني ويعرفوني أني ربهم وخالقهم ومحييهم ومميتهم {ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} يرزقونه أحدا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم أيضا، لأني أنا الكفيل بأرزاق الخلق كلهم {وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} 57 أسند جل شأنه الإطعام لذاته الكريمة، والمراد عياله الفقراء، لأن من أطعمهم لأجله فكأنما أطعمه، وإلا فهو المنزه عن الطعام والشراب، وكل ما هو من صفات المخلوقين وحوائجهم.
والآية تبين أن شأنه جل شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم، لأنهم يملكونهم للاستفادة منهم، واللّه مالكهم ليعبدوه لأنه خلقهم لعبادته فقط وليعلموا استحقاقه العبادة ويعملوا بما يوصلهم إليه، وقد صح في حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال: «إن اللّه عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت لو أنك عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن فلانا استطعمك فلم تطعمه، أما علمت لو أنك أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقي، قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال أما علمت أن عبدي فلانا استسقاك فلم تسقه، أما علمت لو أنك أسقيته لوجدت ذلك عندي». أخرجه مسلم، والمعنى أن اللّه تعالى يقول إني خلقت العباد للعبادة ليعلموا أنهم مخلوقون لها، وأنه تعالى غير محتاج لهم ولا لعبادتهم ولا يريد الاستعانة منهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم لمصالحهم، لأن اللّه غني عن كل خلقه {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} لهم جميعا وأن الترازق الذي يجري بينهم لبعضهم بتسخيره وتقديره وجعله الأسباب مرتبة على المسببات، وإلا فكل يأخذ رزقه الذي قدره له اللّه، {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} 58 الشديد الذي لا يلحقه في أفعاله تعب ولا نصب ولا مشقة، فيوصل أرزاق عباده إليهم ولو لم يطلبوها أو يعملوا لأجلها {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} من كفار مكة الذين أفنوا عمرهم بغير ما خلقوا له وأشركوا به غيره في الدنيا {ذَنُوبًا} حظا وافيا ونصيبا ضافيا من العذاب يوم القيامة {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ} الكفار من الأمم الماضية الهالكة قبلهم {فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} 59 بإنزاله فليترقبوا وليتربصوا له رويدا فهو نازل بهم لا محالة إن أصروا على ظلمهم وحينئذ يطلبون تأخيره فلا يمهلون لحظة واحدة، وفي هذه الجملة تهديد عظيم لهؤلاء الكفار لو عقلوه.
واعلم أن استعمال الذنوب بفتح الذال بمعنى الحظ والنصيب شائع في العربية، قال علقمة بن عبد التيميّ يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شاسا: